له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

1 - أنشودة الأسود الضاحكة

سقراط الأزل بين الجد والهزل

لم تزل (العلاقة) بين المثقف والسلطة تأخذ بعدها المأساوي في الحياة العربية. والمتأمل للعديد من المراجعات المتواترة لهذه المسألة، سوف يلاحظ بأن نزوعاً مضمراً للتصالح مع السلطة يتحكم في معظم هذه المراجعات. وإذا أخذنا في الاعتبار أن لكل حيثياته التي يصدر عنها، فإن أمراً يتصل بطبيعة الدور الحضاري الذي يتميز به المثقف في الحياة، سوف يجعلنا نصاب بالاستغراب من هذا النزوع (الذي يصل أحيانا حد الاستجداء والتملق والتلفيق) الذي يقع فيه ويمارسه مثقفون (في مختلف الحقول) لأجل الالتحاق بالسلطة. وعندما وضعنا كلمة العلاقة بين قوسين في مقدمة كلامنا، أردنا أن نشير إلى ما ينبغي التوقف عنده قبل كل شيء، بوصفه السؤال الأساس في هذا الموضوع. ترى هل من المفترض جدلاً أن تكون ثمة علاقة بين المثقف والسلطة، مهما كانت طبيعة هذه العلاقة؟ بمعنى، هل من صميم طبيعة دور المثقف في الحياة أن تكون ثمة علاقة بينه وبين السلطة لكي يتحقق وجوده؟ بمعنى آخر، ألا يتناقض المثقف مع دوره النقدي عندما يلح على أن تكون له علاقة محددة بهذه السلطة أو تلك ؟ إن جواب هذه الأسئلة يتوضح إذا نحن فهمنا حقيقة (العلاقة) التي ينزع إليها المثقفون في السلطة العربية. لأن الإشكالية التي تواجهنا في الحالة العربية، هي أن المثقف غالباً ما يعني بالعلاقة، ذلك الموقع البنيوي الذي يمنحه مكانة اجتماعية محددة في هيكل السلطة، تحت وهم المشاركة في صنع القرار، في حين أنه (في العمق) يعني تماماً التمتع بالامتيازات المادية التي تجعله متحققاً اجتماعياً، كما لو أنه لا يشعر بوجوده وكيانه إلا إذا اعترفت به السلطة ومنحته هذه النعمة.

وبدل أن يكون المثقف في الموقع النقدي الذي يكشف الواقع، سيجد نفسه، (خصوصاً في المجتمع المحروم من حريات التفكير والتعبير)، ممتثلاً لشرط السلطة، مجبراً على تبرير النظام وصقل أوسمته وإيجاد الحجج (العلمية) التي تجعل من السلطة (مع بعض تحفظات سطحية تضفي عليها طبيعة الحضارة) نموذجاً حديثاً يتوجب القبول به والالتحاق به وتسويقه. وسوف لن يجد بعضهم غضاضة في أن يعمل على تلفيق التاريخ وليّ الحقائق الموضوعية في سبيل تشريع وتكريس مشاريع السلطة وتزيين صورتها لمنحها الشهادات في شتى الحقول، لتبدو في هيئة النظام الجدير بالدفاع عنه. وإذا كانت قضية الحريات (التي تشكل واحدة من أهم المهمات التي على المثقف أن ينهض بها) لا تزال، في الحالة العربية، عصية على التعاطي العلني (ناهيك عن تحقيقها)، فإن الالتحاق بورشة السلطة بشروطها، سوف يجعل من المثقفين أدوات غاية في الخطورة، ليس على حاضر الحياة العربية فحسب، ولكن على المستقبل، الذي لا نعتقد بأنه سيكون أقل عتمة مما نحن فيه الآن.
في ضوء هذا المشهد، سوف نرى أن النظام العربي الصريح في عسفه وتخلفه، يتعثر (فيما هو يزحف بنا إلى المهالك) بعدد لا يستهان به من المثقفين الذي يعرضون خدماتهم، بأثمان لا تتجاوز سقط الموائد، ويتبذلّون أمام الحاكم من أجل الحصول على امتيازات من شأنها أن تجعلهم توابع مبتذلة للمؤسسة الرسمية. لنجدهم، في آلة العسف، بمثابة الدمامل المتقيحة وهم يفقدون مصداقيتهم العلمية والحضارية من جهة، ويجرون إلى المذلة اليومية في المشروع الرسمي، مثلهم مثل الأبواق الصدئة التي تتولى إنشاد المارش العسكري بوصفه نشيد المستقبل. وبعد أن كانت السلطة العربية تسعى بشتى الوسائل لإقناع المثقف بالخضوع لأوهامها (بالترغيب والترهيب)، أصبحنا نرى السلطات ذاتها (ودون أن يتغير جوهرها) تمعن في التنكيل بمن يتمسّح بقفطانها من المثقفين، دون الإحساس بحاجتها لمن يفقد مصداقيته أمام نفسه. بل إنها باتت تنتخب ما يناسبها (كما في سوق النخاسة) بين وقت وآخر، من سقط المثقفين وهم يعرضون أنفسهم، كأدوات مستعملة واردة من سقط تجاربهم الحزبية حيناً، ونضالاتهم الفكرية حيناً، وفي معظم الأحيان منحدرين من تراث الهزائم، التي لم تكن جهة غير هذه السلطات ذاتها السبب التاريخي لنكبتنا بها. وهذا ما يجعل المشهد العربي متوفراً على قدر هائل من احتمالات الانحطاط، بسبب انقلاب القيم والمفاهيم التي يروّج لها المثقفون أنفسهم، في محاولة لتبرير هذا النزوع الشاذ نحو السلطة.

ترى أليس من الأجدى أن يجد المثقف حريته بعيداً عن السلطة، محتفظا بدوره الحضاري النقدي وفي مواجهتها؟ لماذا يتوجب علينا تصديق أن حياتنا قد تطورت، لكي نقبل هذا التحول الهائل الذي يحدث لقطاع المثقفين الذين جاءوا من تلك التجارب الإنسانية الجميلة؟ لكن، كأن كل ذلك لا يكفي. فالمشكل الآخر، يتمثل في كون هذا القطاع من المثقفين لا يكتفون بنزوعهم الفردي، ذاهبين نحو تحقيق ذواتهم وحصولهم على مواقعهم، بل انهم يبالغون في ذلك، محاولين إقناع غيرهم (بمزايدات لا نهاية لها) بضرورة الالتحاق بهم حينا، وبممارسة دور الإرهاب (الظريف) حينا آخر، متخذين من (انفتاح سلطتهم) متاريس يحاربون من خلفها أولئك الذين لا يزالون يعتقدون بأن حرية المثقف لا تنفصل عن حرية المجتمع، وأن قيمة المثقف في استقلاله.

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى