له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

1 - أنشودة الأسود الضاحكة

عندما لا تكون موجوداً

دعه يقول بلسانه، لئلا يقول بيده . هل يفسر هذا ما يحدث لنا ؟ لا أعرف تماماً. انه اجتهاد الفيزياء. لكنه ربما يفسّر جانباً من المشهد. فالكلام - بوصفه حلماً بصوت مسموع - من شأنه أن يجعل الأفق أكثر رحابة واحتمالاً. وإذا صادف وبدا هذا الكلام الحالم مخالفاً أو مختلفاً، بهذا القدر أو ذاك، لنزوعه إلى الشطح أحياناً، فهو بالطبع سيقبل الأخذ والرد والرفض والقبول والنفي، فهو كلام وحسب، وكل هذا سيحدث بالوسيلة ذاتها أيضاً : الكلام. وهي فعالية ليس من المحتمل أن تفسد شيئاً على صعيد الواقع المادي الملموس لحياتنا، على العكس، فثمة من يعتقد بأنها قد تصقل حياتنا وتمنحها الاطمئنان لشعورك بأن هناك شخص يصغي لأحلامك، الشخص نفسه الذي قد يتفق معك أو يختلف، لكنه لا يصادرك ولا يقصلك ولا يتطاول عليك. بعض المتحضرين يسمي هذا حواراً. (دون أن نعرف تماماً ما إذا كان هذا الحوار هو الشرط الوحيد لأن نكون متحضرين أم لا). لكن، كلما تيسرت فرص أكثر للقول باللسان، أمكن تفادي اللجوء للكلام باليد. المتحضرون ذاتهم يعتبرون لغة اليد ضرباً من التخلف، لأنها إشارة واضحة للعودة إلى الإنسان الأول، فيما يتوجب علينا أن نستبعد ذلك ونحن في نهاية القرن العشرين. دون أن نتيقن من هذه الحقيقة حتى هذه اللحظة. (العام 1996). لكن، حين تنعدم فسحة الكلام باللسان، وتغيب فرصة القول كفعل إنساني حالم، يتحتم علينا أن نتوقع الأسوأ، والأسوأ هنا، حين يبدأ، تصبح الآفاق غامضة مثل نجوم الظهر. والأسوأ هذا سوف يفرض على من يتورط فيه أن يرى إلى المشهد وهو يتداعى، دون أن يستطيع الزعم بأن سبل المعالجة التي سيجري اللجوء إليها ستكون هي المناسبة (وحدها). وحين يبدأ الكلام (باليد) فإن كل (ألسنة) العالم لا تستطيع أن تصلح ما يفسد، لأنه (بعكس الكلام باللسان) سوف يصيب كل ما حققته الأيدي من واقع ملموس في حياتنا، بل إنه ربما سيعطب كل ما حاولت الألسن صياغته في عقل الإنسان وخياله. ترى هل يقترح علينا هذا التوصيف (المبسط حتى الإخلال) مقارنة ساذجة ( مثل طفل لم يذهب إلى المدرسة ذات صباح ) بين الخسائر التي ستصيبنا في الحالين : عندما يبدو الكلام باللسان ممكناً، أم عندما يبدأ الكلام باليد ؟ إنني أسأل فحسب، لأنني حقاً لا أكاد أعرف شيئاً. إنني أسأل متقمصاً الطفل الذي اضطر للتغيب عن درسه ذات صباح دون أن يفهم شيئاً، ودون أن يكترث به أحد. أقول، لا أعرف، ليس بتواضع العالم، ولا بادعاء المتعالم، ولا تفادياً لمسؤولية الحقيقة التي تثقل كواهل الجميع. أقول ذلك لأنني لا أستطيع أن أزعم المعرفة في غياب فسحة أحتاجها لمناقشة كل هذه الأسئلة مع أحد (أي أحد)، بالحرية ذاتها التي أجدها عندما لا أكون موجوداً. لذلك. لذلك كله، أفضّل حقاً أن لا أكون موجوداً، مثل بقية الناس، كل الناس، والأطفال خصوصاً.

طرق باب الليل، لم أكن نائماً تماماً، ولم يكن هو في يقظة كاملة. بخسارة فادحة كنت أفتح له الباب، ليس شخصاً معيناً أعرفه، حاولت أن أستحضر الملامح، لكن أحدا أعرفه لم يكن هناك. عندما وبخته على اقتحامه لسكينة غيابي، بادرني بمنتهى الجدية :

- عليك أن تكبح أحلامك.
- عفواً، لكنني لا أحلم.
- لا تحلم؟!، ما الذي تفعله إذن فيما تلوذ بالصمت.
- ها أنت قلتها، ألوذ بالصمت فحسب.
- لا، ليس هناك صمت خالص. إنك توهمنا بذلك، لابد أنك تستسلم لأحلامك.
- في مثل هذا الصمت ! كيف يمكن العثور على حلم.
- نكاد نسمع أحلامك الصاخبة تشغل الفضاء.
- عجباً، يوم كنت أتكلم عالياً لم يكن أحداً يصغي، والآن..
- على الأقل كنا نعرف ماذا يدور في رأسك، الآن، في صمت فاضح كهذا، من يعرف.
- كنتم تسمعون إذن، لماذا لم..
- دع ذلك الآن، وقتها لم يكن الوقت مناسباً.
- حسناً، لقد توقفت عن الكلام، ربما أجد في الصمت بعض العزاء.
- في الحياة شيئان : الكلام والأحلام. وأنت أما أن تكون هنا أو تكون هناك، وفي الحالين يتوجب أن نسمعك بوضوح.
- لقد كنتم تسمعونني طوال الوقت، ما الفائدة. ربما كان الصمت أكثر سلاماً لروحي.
- ما دمت في الصمت فأنت إلى الحلم أقرب منه إلى الواقع، من يعرف، ربما لا يكون تقديرك لواقعية أحلامك موفقاً. لذا تظل بحاجة لمن يرشد أحلامك، إنها مسألة إنسانية محضة.
- كيف يمكن لمن يتغافل عن الكلام أن يكترث بالصمت.
- في الحياة، الصمت يعني غياباً، لكن ثمة حضور يشفُّ عن صمت عامرٍ بأحلام تصل حد الشطح. عليك أن تكون واقعياً.
- أنتم تعرفون، لم أكن واقعياً في يوم ما.
- لقد كنت تحلم بمعزل عنا، المشكلة أننا نشعر بأحلامك، لكننا لم نعد نفهمها بوضوح، يتوجب عليك أن تجهر بأحلامك لكي نراها.
- لكن كيف يمكن أن أجهر بالصمت، هل صادف ورأيتم صمتاً يقدر على الكلام ؟
- ربما يمكن تفسيره على الأقل. هذا ما نحاول التعامل معه هذه المرة، وعليك أن تتفهم الأمر.
- لستُ مختصاً في ترجمة الصمت، هذا شأنكم، لقد سئمت الكلام والصمت معاً.
- لكن للأسف، فأنت لم تترك عادة الحلم.
- الحلم، وماذا يمنع ؟
- ربما احتجت لتقوّم أحلامك أيضاً، فلم يعد كافياً تقويم الكلام، يجب أن تشعر بمسئوليتك الإنسانية، فأنت أحد بناة المستقبل.
- أي مستقبل بالضبط ؟

أطلق ضحكة مجنونة، فيما هو يتلاشى مثل شبح من دخان ثقيل. وسرعان ما غاب تماماً. وجدت نفسي في مواجهة صفحة صقيلة معتمة، لم أعرف، هل هي مرآة أم بحيرة الرخام. لم يكن الأمر حقيقياً تماماً. ربما لأنه لم يكن حلماً خالصاً، ولم يسبق لي أن جربت الجنون. يبدو أنني لم أكن موجوداً بالفعل.

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى