له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

1 - أنشودة الأسود الضاحكة

إعادة إنتاج السلطة

إن فكرة (تجسير الفجوة) في حد ذاتها إشارة فادحة بأن ثمة خللا تكوينيا في مجتمع يتوجب أن تكون السلطة (بوصفها دولة) مرتبطة بالناس. وجود الفجوة يشير إلى خطأ (يضاهي الجريمة) مسؤولة عنه السلطة بالدرجة الأولى، لأنها (من هذا المنظور) نشأت على قطيعة قاتلة مع الناس، بصدورها عن حقٍ يجري تفادي إثارة لا مشروعيته المطلقة كأساس لأي بحث في الواقع. من جانب آخر، فإن أصحاب فكرة (التجسير) يقترحون علينا تصديق وساطة المثقفين، كفئة محايدة، في واقع لا يحتمل حياداً (متوهماً) من هذا النوع. فالمثقف بطبيعته الحضارية ليس محايداً على الإطلاق، إنه مع الحق والحقيقة (عدلاً وحرية) ضد العالم كله.

وحسب (تجسير الفجوة)، مطلوب من المثقف إعادة إنتاج السلطة، عن طريق (بواسطة) آلية خطاب ديماغوجي تقوم على الإيهام بأن السلطة (ارتكبت الأخطاء) لأن المعلومات تعوزها. والمعلومات هنا هي المعرفة التي يتوجب على المثقف أن يوفرها للدولة، لتبدو سلطة ( زائد المعرفة) قادرة على تجاوز الأخطاء. غير أن إعادة إنتاج السلطة لا يتحقق إلا بالأدوات الفعالة التي من بين أهمها المثقف ذاته، الذي سيتحتم عليه أن يستدير للشعب لإقناعه بالصيغة الجديدة للسلطة (المعاد إنتاجها)، في محاولة لتفادي فضيحة ماثلة، بإظهار الشعب (بدوره) في موقع يتطلب منه أن (يتفهم، ثم يفهم، ثم يقبل) طبيعة سلطة الدولة. لكي نكتشف (هذه المرة) أن الشعب تنقصه (معرفة/فهمها) السلطة. وبدل أن يكون التخلف في النظام، يصبح التخلف في الشعب، ليبدو هذا الشعب هو المخطئ لأنه لم يتفهم السلطة ولم يغفر لها. وبهذا نحصل على قطيع من الناس يذهب ضحية الأوهام دائماً.

ينبغي إعادة النظر ليس في الديمقراطية كمبدأ يظل عرضةً لاختراقاتٍ دائمة، ولكن في المفاهيم التي يتذرع (ويتدرّع) بها قطاعٌ كبير من المثقفين، الذين أثبتت التجربة أنهم يتميزون بذخيرة قمعية كامنة، تتضاءل أمامها طبيعة السلطة المهيمنة. المثقفون ذاتهم الذين لا يزالون يطرحون الصوت عن حق الثقافة والمثقفين بالمشاركة في صياغة حاضر ومستقبل الأمة، وكأن هذا الحق يمكن أن يتحقق بمعزل عن توفر المناخ العام لتمارس الأمة قاطبة (الأفراد قبل المؤسسات) الحق في خيارات الحرية والديمقراطية ؟!.

كأننا أمام رغبة غير معلنة في تحويل الدور النقدي للمثقف نحو ممارسة تخلع طبيعته الأخلاقية. وحين نقول (أخلاقية) فإنما نتشبث بالجذر الإنساني للمثقف، (حب النوع البشري) يقول شيشرون. وهو جذر يتجاوز النزوعات الفكرية والأيديولوجية. جذر يتصل بما لا يتغير من القيم والحساسيات التي تشكل شرطاً جوهريا في تكوين المثقف وطبيعته. ونخشى أن الكثير من هذه الأخلاقيات هي عرضة الآن لانحسار يهدد ثقة الإنسان في ذاته. فقد باتت القيم مقلوبة بحيث تبدو مجرد الإشارة إليها ضربا مبالغا فيه من المثالية. وبتعاظم الإنزياح الجارف لقطاعات من المثقفين نحو تبني هذه القيم (المقلوبة)، سوف يجعل الآخرين كائنات على قدر كبير من النشاز والشذوذ. فعندما تصدر عن موقف يتبنى الجانب الإنساني في الحياة، ستكون كمن يرتكب خطيئة لا تليق بشروط الواقع، هذا الواقع القائم على شروط مضادة للإنسان. فالعدالة (مثلاً) ليست إنسانية إلا بالقدر الذي تسمح به شروط الواقع. والصدق (مثلاً) هو قيمة تتوقف على ما ينسجم (لا يتعارض) مع (الحقائق) التي تقولها السلطة هنا أو هناك.

فبدل أن يسعى المثقف إلى المعلومات، التي يقيم عليها منظوراته وبحثه، من المصادر الحقيقية، يتحتم عليه أن يثق في المعلومات التي تتيحها أجهزة السلطة (سلطة الواقع/ وهنا علينا الانتباه للفرق بين الواقع والحقيقة في المشهد الملتبس بإتقان). سوف تظل وسائل الإعلام هي المصدر الوحيد الذي لا ينبغي التشكيك في مصداقيتها. في حين أن الدور القمعي الذي تمارسه وسائل الإعلام ذاتها بات يضاهي أبشع الوسائل على الإطلاق. فهو، إلى جانب طبيعته الرسمية الخاضعة والممتثلة، فانه يأخذ المواطن إلى عملية بالغة الخطورة من التجهيل والتدجين، بحيث يفرغه من شعوره الطبيعي في السؤال عن الحقوق والحقائق. فإذا جاء المثقف بدوره لكي يجعل الإعلام مصدراً لمعلوماته، فإنه لن يصدر إلا عن الجهل ذاته الذي يتكرس يومياً. فوسائل الإعلام العربية في السنوات الأخيرة أخذت تشكل رافعاً رئيسياً من روافع تكريس الواقع المتخلف، بوعي كامل من السلطات ومهندسي هذا الإعلام. فالسلطات هي الآن تؤدي الجزء الكبير من دورها (القمعي) تخديرا وتجهيلا بواسطة وسائل الإعلام، حتى أنها لم تعد (في معظم الأحيان) بحاجة لأساليب القمع المباشرة.

فإذا فقدنا دور المثقف النقدي لمظاهر التخلف والعسف، فإننا سوف نجده يتجاوز ما تؤديه أجهزة الإعلام سلبياً في حياتنا. خصوصاً إذا وجد المثقف نفسه معزولاً عن طبيعته النقدية. وإذا حدث ذلك، فإننا سنحصل على مثقفين يتخلون عن أهم الشروط الحضارية في الحياة : النقد، والنقد المستمر، وبلا هوادة. وعندها يصبح المثقف موجوداً في (الحياة) بوصفه كائناً بلا عقل من جهة، وبلا ذاكرة من جهة أخرى. فهو لا يغيب عن الواقع (الحاضر) في صورة المهادن فحسب، ولكنه أيضاً (وهذا خطر مضاعف) سوف ينسى الماضي، بمعنى أنه يفقد حسه التاريخي الذي يميزه عن الحيوان. وبالتالي سوف يعمل (بوعي أو بغفلة) على تفادي المستقبل كحقيقة تاريخية تنتج عن ماض وحاضر أكثر واقعية من المستقبل.

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى